طاعة ولي الأمر وحرمة الخروج عليه ووحدة الكلمة
إن من أعظم المقاصد التي جاءت بها الشريعة هو اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، وتآزر المجتمع وتماسكه والتفافه حول قادته ودعاته وعلمائه. فباجتماع الكلمة وألفة القلوب تتحقق مصالح الدين والدنيا، ويتحقق التناصر والتعاون والتعاضد، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، ولذلك كان أعظمَ ما نهى الله عنه ورسوله الفرقةُ والاختلافُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، وفي الحديث عن النبي قال: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»، وقال عبدالله بن مسعود: «الخلاف شرٌ كله»، وقال الحسن: «أيها الناس، إن الذي تكرهون في الجماعة خير مما تحبوه في الفرقة».
ولعظم هذا الأمر حرمت الشريعة الخروج على ولي الأمر الذي برقابنا له بيعة، وحقُّه علينا كما اتفق أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة بالمعروف ديانة لله -عز وجل-، وأن طاعته في المنشط والمكره والعسر واليسر وفي الأثرة علينا، وأن السمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف من السمع والطاعة لله، وأن معصيتهم معصية لله، وأن السمع والطاعة كما تكون في العلن تكون في السر.. قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (35/ 17): «فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَاجِبَةٌ لِأَمْرِ اللَّهِ بِطَاعَتِهِمْ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ لِلَّهِ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَمَنْ كَانَ لَا يُطِيعُهُمْ إلَّا لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ فَإِنْ أَعْطَوْهُ أَطَاعَهُمْ؛ وَإِنْ مَنَعُوهُ عَصَاهُمْ: فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ».
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ؛ وَلَا يُزَكِّيهِمْ؛ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ؛ وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاَللَّهِ لِآخِذِهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَا؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَّى؛ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ».
إنها معانٍ عظيمة واجبة كل وقت، وهي آكد في أوقات الشدائد والأزمات والفتن، حفاظًا على حوزة المسلمين وحراسة للوطن والدين؛ لأن اجتماع الكلمة قوة المسلمين، واختلاف الكلمة ضعف لهم.
وعن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آمركم بخمس الله أمرني بهن: بالجماعة، وبالسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلامِ من عنقهِ إلى أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم»، قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى؟! قال: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله جل جلاله: المسلمين، المؤمنين، عباد الله عزّ وجل» حديث صحيح رواه أحمد والترمذي.
وعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنت الخلفاء الراشدين المهديين، عضواً عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالة» رواه أبو داود والترمذي وقال: «حديث حسن صحيح».
يقول الإمام البغوي -رحمه الله-: «بعثَ الله الأنبياءَ كلَّهم بإقامة الدين، والإلفَة والجماعة، وترك الفُرقة والمُخالَفة».
فأين هذه المعاني من تلك الفرق والأحزاب التي ساهمت في تفريق الكلمة وتقسيم المسلمين؟.. وجرّت عليهم الويلات والفتن؟.
إن من كمال الدين وكياسَة العقل وسلامةَ الفهم: ألا ينساقَ المرءُ مع من يُريد تصديعَ وحدة الأمة، لما قد يرَى من ظُلمٍ قد وقعَ، أو حقٍّ قد انتُقِص؛ لأن من فقدَ بعضَ حقِّه في حالَة الوحدة سيفقِدُ كل حقِّه إذا وقعَت الفُرقة -معاذ الله-، ولن يأمَن -والله- على نفسه، ولا على أهله، ولا على عِرضه ولا على ماله.
لنا إخوةٌ أعِزَّة في بلادٍ مُجاورة -لطفَ الله بهم وحفِظَهم، وأعانَهم على ما يُعانُون- تفرَّقَت كلمتُهم، وفقَدوا استقرارَهم، وانفرَط عِقدُ وحدتهم؛ ففارقُوا ديارَهم، وتشرَّدوا مُخلِّفين وراءَهم دُورَهم وأموالَهم وزُروعَهم وتجاراتهم، تركُوا الغاليَ والنفيس، ينشُدون الأمنَ والاستِقرار، يعيشُون مُغترِبين مُعدَمين.
حين فقَدوا استِقرارَ الدولة حلَّت في ديارهم الفوضَى، وفي أجواء الفوضَى يتفرَّق الجمع، ويتخاصمُ الحُلفاء، ويتخندقُ الفُرقاء، ومن ثمَّ يُصبِحُ الفشلُ مُحيطًا بالجميع، ويصيرُ العجزُ هو النتيجةَ التي يتحمَّلها الجميع.