• !
admin

الضروريات الخمس

أمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ ﴾.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
أيها المسلمون: اتقُوا اللهَ تعالى، واعلمُوا أنَّ دِينَ الإسلامِ دِينُ رحمةٍ، في مَقَاصِدِهِ العَظيمةِ، وقَواعِدِهِ، وتَشْرِيعاتِه. فَهُوَ رحمةٌ في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، ورحمةٌ في الضِّيقِ والسَّعَةِ، ورحمةٌ في الإثابَةِ والعُقُوبَةِ، ورحمةٌ في الحُكْمِ والتَّنْفيذِ، ورحمةٌ في كُلِّ الأحوالِ. ولِتَحْقِيقِ هذه الرحمةِ، جاءَ الإسلامُ بِحِفْظِ الضَّرُورِياتِ الخَمْسِ التي لابُدَّ مِنْها في قِيامِ مَصالِحِ الدِّينِ والدنيا، بِحَيْثُ إذا فُقِدَت ضاعت مَصالِحُ العِبَادِ والبِلادِ، وفَسَدَتْ أحوالُهم. وهي: الدِّينُ والنَّفْسُ والعَقْلُ والنَّسَبُ والمالُ. والمُحافَظَةُ عَلَيْها هي السِّياسَةُ الداخِلِيَّةُ الحَقِيقِيَّةُ في دَوْلَةِ الإسلامِ.
وهذه الضروريات الخمس يا عباد الله: جاءت بها جميع الشَّرَائِعَ السَّمَاوِيَّةَ المُنَزَّلَةَ مِن عِندِ رَبِّ العَالمِينَ، وجَاءَت لإِسعَادِ الإِنسَانِ في الدَّارَينِ، وَقَصَدَت إِلى نَجَاتِهِ في دُنيَاهُ وَأُخرَاهُ، وَاهتَمَّت بِهِ فَردًا مِن ضِمنِ جَمَاعَةٍ، لَهُ عَلَيهَا حَقُوقٌ وَلَهَا عَلَيهِ حُقُوقٌ.
وَمِن أَجلِ هَذَا فَقَد جَاءَ الإِسلامُ بِكُلِّيَّاتٍ خَمسٍ، وأَوجَبَ حِفظَهَا وَحَمَى حِمَاهَا، وَحَدَّ الحُدُودَ وَشَرَعَ التَّعزِيرَاتِ لِلحَيلُولَةِ دُونَ النَّيلِ مِنهَا، إِنَّهَا الدِّينُ وَالنَّفسُ وَالمَالُ وَالعِرضُ وَالعَقلُ.
قال الغزالي - رحمه الله -: «إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة».
وأول هذه الضروريات: الدين:
ولقد جاءت النصوص القرآنية متوالية تترى في حفظ الدين وحمايته، وحماية كيانه، وصيانة بيضة الإسلام من أن يخدشها أي خادش، فوضع الحمى التي تحمي حظيرة هذا الدين، وصان كرامة المسلمين؛ لئلا يقع منهم ما يُغضب ربَّهم تبارك وتعالى.
والآيات التي جاءت قاصدة بالحث على حفظ الدين كثيرة، سواء أكان ذلك من حيث التأكيد والتوكيد على الالتزام به والتديُّن، أو النهي عمَّا يُضادُّه من ألوان الكفر والشرك والنفاق ولعلَّنا نذكر طرفًا منها في هذا الصدد:
فلقد بيَّنت شرعة الإسلام أنَّه لا دين إسلامي صحيح غير الإسلام فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]. وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسلامُ ﴾ وَقَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: " ﴿ وَمَن يَرتَدِدْ مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتُلُوهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ.
وبيَّن لنا أنَّ هذا الدين كامل، فلا يجوز لعبد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه لأنَّ من شرعه هو ربُّ العالمين، وليس للعبد أن يتدخَّل في شريعته فقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وقد قرَّر الإمام الشاطبي - رحمه الله - أنَّ حفظ الدين يقوم على قضيتين:
الأول: حفظ الدين من جانب الوجود، وذلك بالمحافظة على ما يقيم أركانه ويثبت قواعده.
الثاني: حفظ الدين من جانب العدم، وذلك برفع كل ما يعارض دين الله".
والإِنسَانُ -عباد الله- مَخلُوقٌ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، وَهُوَ عَائِدٌ إِلى مَولاهُ فَمُحَاسِبُهُ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ ﴾ وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: " ﴿ أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لا تُرجَعُونَ. فَتَعَالى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ. وَمَن يَدعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ﴾.
عباد الله: وثاني هذه الضروريات (حفظ النفس)، والنَّفسُ البَشَرِيَّةُ غَالِيَةٌ، وَالحِفَاظُ عَلَيهَا أَمَانَةٌ وَمَسؤُولِيَّةٌ، وَالاعتِدَاءُ عَلَيهَا وَإِزهَاقُهَا جَرِيمَةٌ وَأَيُّ جَرِيمَةٍ، وَأَعظَمُ النُّفُوسِ عِندَ اللهِ نَفسُ المُؤمِنِ، ثم كُلُّ نَفسٍ مُعَاهَدَةٍ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَمَن يَقتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾، وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إلاَّ بِإِحدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، وَالنَّفسُ بِالنَّفسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ "
وجاءت الشريعة بحفظ روح الإنسان، وألاَّ يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقال تعالى: ﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
ونهى تعالى على قتل المسلم لأخيه المسلم، فقال تعالى: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 92].
وكتب الله القصاص على كلِّ من قتل المسلم قاصدًا فقال تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178].
وبيَّن تعالى أنَّ من قتل نفسًا بغير حق فكأنَه قتل جميع الناس؛ لما في ذلك من الاعتداء على كرامة الإنسان معصوم الدم، فقال تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32].
عباد الله: ثالث الضروريات التي جاءت بها الشريعة (حفظ العقل)، ولهذا حثَّ الله - تبارك وتعالى - على القراءة والتعلُّم، والأداة الحقيقيَّة التي يُمكن للمرء أن يقوم بها لأجل ذلك هي أداة العقل، فقال قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم ﴾ [العلق: 1 – 5].
وجاءَ الإسلامُ بِتَحرِيمِ جَمِيعِ ما يَضُرُّ عَقْلَ المسلمِ، ومِنْ ذلك قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فُقُلِيلُه حَرامٌ ). ولُعِنَ في الخَمْرِ عَشَرَةٌ، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( أتاني جِبْريلُ فقال: يا محمدُ إِنَّ اللهَ لَعَنَ الخَمْرَ، وعاصِرَها، ومُعْتَصِرَها، وشارِبَها، وحامِلَها، والمَحْمُولُةَ إِلَيْهِ، وبائِعَها، ومُبْتاعَها، وساقِيها، وَمُسْقَاها ) وأَمَرَ الشارعُ بِجَلْدِ شاربِ الخَمْرِ. وأَخْطَرُ مِن الخُمُورِ: استِعْمالُ الحَشِيشِ والمُخَدِّراتِ، التي أَجْمَعَتْ أنْظِمَةُ الدُّوَلِ، بِما فيها الدُّوَلُ التي تُباعُ فيها الخُمُورُ عَلَناً، بِمَنْعِها وتَجْريمِ مُسْتَخْدِمِيها ومُرَوِّجِيها. وما ذاكَ إلاّ لِأَنَّ خَطَرَها يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الضَّرُوراتِ الخَمْسِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
عباد الله: الرابِعَةُ من الضروراتُ: الأنسابُ: ولِلْمُحافظةِ عَلَيْها أَمَرَ الشارِعُ بِالنِّكاحِ، وَوَضَعَ لَهْ شُرُوطًا وأَرْكانًا، وضَوابِطَ، وحَثَّ الشَبابَ عَلَيْهِ، وحَرَّمَ الشارعُ الحَكِيمُ الزِّنا.
فحثَّ الشرع على النكاح والزواج لأنه هو الطريقة الشرعية التي تقبلها النفوس الطيبة، والفطر السلمية، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3].
وبيَّن أنَّ الطريقة الشرعية في النكاح استئذان الأهل، دون أن يكون هنالك محبَّة ماجنة وعلاقات سابقة فقال:﴿ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾ [النساء: 25].
وأمر تعالى بغض البصر؛ سدًا لذريعة التوصُّل لكل حرام بالمرأة الأجنبية، وكذلك حثَّ تعالى المرأة على غض بصرها، فقال تعال: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾‏‏ [النور: 30].
ونهى - عزَّ وجل - عن مجرَّد الاقتراب من الفاحشة فقال:﴿ ولا تَقْربُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ﴾. [الإسراء: 32] وقال تعالى: ﴿ ولا تَقْربُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَر مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151].
الخامِسَةُ: الأموالُ: وَلِأَجْلِ المُحافظةِ عَلَيْها حَرَّمَ اللهُ أَخْذَ الرَّشْوَةِ، ونَهَى عن المُعاملاتِ المَبْنِيَّةِ عَلَى الغَرَرِ والجَهالَةِ، أَو الخِداعِ والتَّغْرِيرِ، وحَرَّمَ اللهُ أكْلَ الربا وكذلكَ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السارِقِ، ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).
عباد الله: وهذه الضروريات الخمس لا يتحقق الحفاظ عليها إلا بوجود إمام وحاكم يجتمع الناس عليه.
ولهذا كان من أعظم مقاصد الشريعة، وأصول الدين، تحقيق وحدة الكلمة، وائتلاف القلوب، وجمع كلمة المسلمين على إمام واحد، لأن الإمام إذا سمع وأطيع اجتمعت الكلمة، وانتظم الحال، وعند معصية ولي الأمر يكون الضعف والبلاء في الأمة، ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب على كل مسلم في عنقه بيعة أن يحافظ عليها، وألا يتخلى عنها، ولا ينقضها.
بواسطة : admin
 0  0  225