• !
admin

صلة الرحم

الحمد لله الذي خلقَ من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصِهرًا وكان ربُّك قديرًا، والذي جعل بين العباد وشائِجَ ووصائِلَ ووصَّى بها خيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ضدَّ لربِّنا ولا نِدَّ وكان الله سميعًا بصيرًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه بعثَه الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا كثيرًا.

أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وأدُّوا الحقوق لأربابها، وأوصِلُوها لأصحابِها، يكتُب اللهُ لكم عظيمَ الثواب، ويُجِركم من أليم العقاب.

أيها المؤمنون، إنه من مقاصد الإسلام العالية، وركائزه العظام السامية، نشرُ المحبة والألفة بين العباد، ونبذ التخاصم والتدابر والأحقاد، قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].

وعملًا بهذا المقصد العظيم والأصل المتين، أمرت الشريعة بصلة الأرحام، ونهت عن القطيعة والخصام.
عباد الله، إن صلة الرحم من أوجب الواجبات، وأعظم الطاعات والقربات، ومن أجلِّ العبادات والأعمال الصالحات، وهي في أبسط معانيها، وأوضح معالمها: إيصال النفع والخير لذوي القربى، ودفع الشر والأذى عنهم[2].
وقد اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرمة، ولو كان الموصول كافرًا، فقد صحَّ عَن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،قَالَتْ: "قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أمَّكِ"[3]، فأمرها صلى الله عليه وسلم بصلتِها وهي كافرة[4].
وهذا من المحاسن التي جاءت بها شريعة الإسلام، ومن المبادئ السامية التي حث عليها نبينا عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا لما نزل قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: ((يَا بَنِي كَعبِ بْنِ لُؤي، أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بَنِي عَبْدِشَمْسٍ، أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِمَنَافٍ، أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يا بَنِي عَبْدِالْمُطلِبِ، أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا فَاطِمَةُ، أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ؛ فَإنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأبُلُّهَا بِبِلالِهَا))[5]؛ أي: إن لكم قرابة سأصلها بصلتها وبالإحسان إليها، ولكني لا أغني عنكم من الله شيئًا[6]، وهذا هو حال المسلم؛ لما يفيض قلبه محبةً ورأفةً ورحمةً على جميع خلق الله، فيرجو لهم الخير، ويدفع عنهم الشر والأذى ما استطاع، وخاصة ذوي القربى.
ولهذا جاءت آيات القرآن مليئة بالحث على صلة الأرحام، والتحذير من القطيعة والهِجران، ومن هذه الآيات قول الله تعالى:﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾ [النساء: 1]؛ أي: اتقوا الله تعالى أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها[7].
ومن الآيات التي تحث على صلة الرحم، قوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 36]، فذكر سبحانه وتعالى من جملة المأمورات: الإحسان إلى ذوي القربى، استبقاء لأواصر الودِّ بين الأقارب؛ إذ كان العرب في الجاهلية قد حرَّفوا حقوق القرابة، فجعلوها سببَ تنافسٍ وتحاسد وتقاتل، وحسبك ما كان بين بكرٍ وتغلب في حرب البسوس، وهما أقارب وأصهار، فلذلك حث الله تعالى على الإحسان إلى ذوي القربى والرحم.
ومن الآيات كذلك قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ [الرعد: 21]؛ أي: والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى، بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة[8]، فهؤلاء لهم عقبى الدار، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة[9].
ولمَّا ابتَدأ الوحيُ بمحمّد في أوَّل الوحي خشِي ممَّا رَأى، فأتَى لخَدِيجة فحدَّثَها بما رَأى، فقالت: كلا، واللهِ ما يخزيك الله أبدًا؛ إنّك لتصِل الرّحِم، وتقري الضَّيف، وتكسِب المعدومَ، وتعين على نوائبِ الحق[2].
أيها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم أفضلُ الصدقات وأعظمها، أعتقَت أمّ المؤمنين ميمونة جاريةً لها فأخبرتِ النّبيّ ، فقال: ((فعلتِ ذلك؟)) قالت: نعم، قال: ((لو أنَّك أعطيتِها أخوالَك كان أعظمَ لأجرك))[3]، مع أنَّ العتقَ فيه فضلٌ عظيم، ومَن أعتق مملوكًا له أعتق الله من كلِّ جزءٍ منه جزءًا من النار.
ويقول : ((لمَّا خلق الله الخلقَ قامتِ الرحم فقال: مه، قالت: هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعة، قال: ألا ترضَين أن أصلَ من وصلك وأقطعَ من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك))[4].
وأخبر أنَّ صلةَ الرحم من أسباب دخول الجنة، سأله أعرابي فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يدخلني الجنة، قال: ((تعبدُ اللهَ ولا تشرِك به شيئًا، وتُقيم الصلاةَ، وتُؤتي الزّكاة، وتَصِل الرحم))[5].
وأخبر بقوله: ((إنَّ أبرّ البِرّ صلةُ الرجلِ لأهلِ وُدِّ أبيه))[6]، ولا سيّما الرحم منهم.
وأخبر أنّ صلة الرحم سببٌ لبركة العمر وسعة الرزق، فيقول : ((من أحبَّ أن يُنسَأ له في أثره ويبارَك له في رزقه فليصِل ذا رحمه))[7].
أيّها المسلم، وليسَت صلة الرّحم بتبادُل المنافع، إنْ وصلك رحمُك وصلتَه، وإن نأى عنك وابتعَد نأيتَ عنه، ليس الصلة على هذه الصّفة، فتلك مكافأةُ البعض للبعض، ولكن أمر صلة الرّحم فوقَ هذا كلّه، يقول : ((ليسَ الواصل بالمكافئ، إنَّما الواصلُ الذي إذا قطعَت رحمُه وصلها))[8].
ونبيّنا بيّن لنا أيضًا في سنته أنَّ واصل الرّحم قد يتعرّض لأمورٍ من رحمِه، معاكِسًا لفعله، هو يُبدي الصلةَ وهم يبدون القطيعَة، وهو يحلم وهم يجهلون، وهو يقرّبُهم وهم يُبعِدونه، وهو يتودَّد إليهم وهم يُبغِضونه، ومع هذا كلّه أمرَه بملازمة الصّلة، وبيّن له ما يترتَّب على هذا من الثّواب، قال له رجل: يا رسول الله، إنَّ لي رحمًا أصِلهم ويقطعونني، وأحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون علي، قال: ((إنْ كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفّهم الملَّ ـ أي: الرماد الحار ـ، ولا يزال معَك من الله عليهم ظهير ما دُمتَ على ذلك))[9].
بواسطة : admin
 0  0  136