من أحكام اليمين
الحمد لله الذي حَكَمَ فَأَحْكَمَ، وحلَّل وحرَّم، أحمده على ما عرَّف وعلَّم، وفقَّه في دينه وفهَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مهَّد قواعد الدين بكتابه المُحْكَم، وأنزله هدايةً لجميع الأمم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين من عربٍ وعَجَم، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم على ذلك السبيل، وسائر المنتمين إلى ذلك القبيل، أما بعد
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حق التقوى؛ فقد فاز المطيع المتَّقي، وخسر المسرف الشقي، وهلك الظالم المعتدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
كثر على ألسنة الناس اليوم الأَيْمان والأقسام والنُّذُور؛ فوجب بيان فقهها، وتوضيح أحكامها، موعظةً وتذكرةً، وتنبيهًا وتبصرةً، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
أيها المسلمون:
اليمين عظيمة في الدين، يركن إليها القضاة عند عدم البيِّنة، ويتراضى بها الناس عند الخصومة، وتتردَّد في معاشرات الناس ومعاملاتهم، وهي توكيد الشيء بذكر اسم الله، أو صفة من صفاته على وجهٍ مخصوص، ولا يجوز الحَلْف بغير الله تعالى، كالحلف بالأمانة والنبي والملائكة ورأس فلان؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ حلف بغير الله فقد كفر وأشرك))؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.
ويُكره الإسراف في الحلف والإكثار منه في أمور الدنيا وتافه الأسباب، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]، وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].
وعن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه ينفق ثم يمحق))؛ أخرجه مسلم.
وأما الإكثار من الحلف في أمور الدين لتأكيدها ودفع الشك عن سامعها؛ فهو محمودٌ غير مكروه، كما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم.
ومَنْ حَلَفَ يمينًا قاصدًا عقدها على مستقبلٍ ممكن، ففعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله مختارًا ذاكرًا - فقد حنث، ووجبت عليه كفَّارة اليمين، وهي إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين كيلو ونصف تقريبًا من بُرٍّ أو أرز أو تمر، أو من غالب قوت البلد، ولا يجزئ إطعام واحد عشر مرات، أو اثنين خمس مرات؛ بل لا يخرج الحانث من العهدة إلا بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وتتقدر الكسوة بما يُجزئ في الصلاة، وهو ثوبٌ للرجل يستر عورته، وللمرأة درعٌ وخمارٌ يستر جميعها، ولا يجزئ السراويل ولا إزار وحده، وتجزئه كسوتهم من القطن والصوف وسائر ما يسمَّى كسوة، والأولى كسوتهم من الجديد لا من اللبيس، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإنْ لم يستطع صامَ ثلاثة أيام، واشترط جمهور العلماء أن تكون متتابِعات.
ولا يجزئ إخراج النقود في كفَّارة اليمين، ومن فعل خلاف يمينه ناسيًا فلا حنث ولا كفَّارة؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
ومَنْ كرَّر الأَيْمان قبل الحنث والمحلوف عليه واحد؛ فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، ومَنْ حلف ثم حنث، ثم حلف ثم حنث، والمحلوف عليه واحدٌ؛ فعليه كفارات بعدد المرات التي حنث فيها، ومتى تعدَّدت الأيمان والمحلوف عليه أكثر من واحد؛ وجب عن كل يمين حنث بها كفَّارة.
ومَنْ حرَّم على نفسه مباحاً سوى زوجته؛ كفَّر عن يمينه وأتى ما أُبيح له.
وعلى المسلم ألا يحرِّم على نفسه شيئًا أباحه الله له؛ من طعام أو شراب أو ملبس أو مال له حقٌّ شرعيٌّ فيه، ومَنْ حلف لا يفعل برًّا ولا تقوى ولا صلةً ولا إصلاحًا بين الناس، حرم عليه أن يعتل بالله، ووجب عليه أن يكفر ويبر؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأتها وليكفِّر عن يمينه))؛ أخرجه مسلم.
وما جرى على اللسان من الأيمان والأقسام بلا قصد من الحالف ولا نيَّة؛ كقول الرجل: لا والله، وبلى والله؛ فهو لغوٌ لا كفَّارة فيه.
ومَنْ حلف على شيءٍ جازمًا بصَّحة ما قال، فظهر بخلاف ما حلف - فلا كفارة عليه، ومن حلف فقال عقب يمينه - إن شاء الله - فقد استثنى؛ فإن شاء فعل، وإن شاء تَرَكَ، ولا حنث عليه ولا كفَّارة؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حلف فاستثنى؛ فإن شاء رجع، وإن شاء ترك غير حنث))؛ أخرجه أبو داود. ويُشترَط أن يستثنيَ بلسانه، ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامَّة أهل العلم.
ومَنْ عَقَدَ يمينًا على الكذب والخديعة والفجور، لإضاعة حقِّ امرئٍ مسلمٍ وأكل ماله بالباطل - فقد حلف الغموس المُرْدِيَة واليمين المُوبِقَة؛ فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئٍ مسلم، هو فيها فاجرٌ؛ لقي الله وهو عليه غضبان))؛ متفق عليه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحفظوا أيمانكم، واحذروا النذور التي تكلِّفكم ما لا تطيقون، واجعلوا نشاطكم فيما أوجب الله عليكم، واستجلِبوا النِّعم واستدفعوا النقم بالعمل الصالح والدعاء؛ فلا يردُّ القَدَر إلا الدُّعاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من البيِّنات والحكمة، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه كان للأوَّابين غفارا
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد،،،
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
أيها المسلمون، إن على المسلم إذا أراد أن يحلف: أن لا يحلف إلا بالله تعالى وحده، ولا يحلف بغيره، فيقسم باسم من أسماء الله تعالى؛ مثل: والله، ورب الكعبة، أو أقسم برب العالمين، أو يقسم بصفة من صفاته تعالى؛ مثل: وعزة الله، وقدرة الله، والذي رفع السماء بلا عمد، ونحو ذلك من الصفات.
قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)[9].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوب يغتسل عريانًا فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتُك عما ترى؟ قال: بلى، وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك)[10].
وعلى هذا لا يحل للمرء أن يحلف بغير الله تعالى، وإنما يحلف المخلوق بالخالق، ولا يحلف بشيء من الخلائق؛ من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين أو الأولياء أو العظماء أو الآباء، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله وإلا فليصمت) قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً[11].
عباد الله، وإن للحلف بغير الله تعالى صوراً متعددة، فمنها:
الحلف بالأمانة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (من حلف بالأمانة فليس منا)[13]. قال العلماء: معناه: "ليس على هدينا، وجميل طريقتنا"[14].
ومنها: الحلف بغير ملة الإسلام كأن يقول: هو يهودي أو نصراني ما فعل هذا، أو أنه سيفعل كذا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمداً فهو كما قال)[15]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف؛ إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام فهو بريء من الإسلام)[16].
ومنها: الحلف بالنبي، أو الشرف، أو رؤوس الأولاد، أو الرتبة العسكرية، أو الحياة أو العيش، أو حق فلان وعلان، أو غير ذلك.
فمن حلف بصورة من هذه الصور ونحوها معتقداً أن للمحلوف به منزلةً مثل الله تعالى فهو مشرك شركاً أكبر. وإن كان لا يعتقد ذلك ولكن كان في قلبه من تعظيم المحلوف به ما حمله على أن يحلف به دون أن يعتقد أن له منزلة مثل منزلة الله فهو مشرك شركاً أصغر[17].
هذا وصلُّوا وسلِّموا عبادَ اللهِ، على خير البرية وأزكى البشريَّة، محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أمرَكم اللهُ بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّر أعداءكَ أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، واجعَلْ ولايةَ المسلمين فيمَنْ خافَكَ واتقاكَ واتَّبَعَ رضاكَ يا ربَّ العالمينَ.
اللهم وفِّق إمامَنا لهداكَ، واجعَلْ عملَه في رضاكَ، وارزقه البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، التي تدلُّه على الخير وتُعِينه عليه يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم ووليَّ عهده وإخوانَهم على الخير يا ربَّ العالمينَ.
اللهم إنا عبيدُكَ بنو عبيدِكَ بنو إمائِكَ، نواصينا بيدِكَ، ماضٍ فينا حُكمُكَ، عدلٌ فينا قضاؤُكَ، نسألُكَ بكلِّ اسمٍ هو لكَ، سميتَ به نفسَكَ، أو أنزلتَه في كتابِكَ، أو علمتَه أحدًا من خَلقِكَ، أو استأثرتَ به في عِلمِ الغيبِ عندَكَ، أن تجعل القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجلاءَ أحزاننا، وذَهابَ همومنا وغمومنا، اللهم ذكِّرْنا منه ما نُسِّينا، اللهم عَلِّمْنا منه ما جَهِلْنا، اللهم ارزقنا تلاوتَه آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ على الوجه الذي يُرضِيكَ عنَّا، اللهم اجعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهلُكَ وخاصتُكَ، اللهم انفَعْنا وارفَعْنا بالقرآن العظيم، واجعَلْه لنا إمامًا وهاديًا إلى جناتك جنات النعيم.
اللهم اغفر لنا ذنوبَنا وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامَنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، أولها وآخرها، علانيتها وسرها.
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حق التقوى؛ فقد فاز المطيع المتَّقي، وخسر المسرف الشقي، وهلك الظالم المعتدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
كثر على ألسنة الناس اليوم الأَيْمان والأقسام والنُّذُور؛ فوجب بيان فقهها، وتوضيح أحكامها، موعظةً وتذكرةً، وتنبيهًا وتبصرةً، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
أيها المسلمون:
اليمين عظيمة في الدين، يركن إليها القضاة عند عدم البيِّنة، ويتراضى بها الناس عند الخصومة، وتتردَّد في معاشرات الناس ومعاملاتهم، وهي توكيد الشيء بذكر اسم الله، أو صفة من صفاته على وجهٍ مخصوص، ولا يجوز الحَلْف بغير الله تعالى، كالحلف بالأمانة والنبي والملائكة ورأس فلان؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ حلف بغير الله فقد كفر وأشرك))؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.
ويُكره الإسراف في الحلف والإكثار منه في أمور الدنيا وتافه الأسباب، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]، وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].
وعن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه ينفق ثم يمحق))؛ أخرجه مسلم.
وأما الإكثار من الحلف في أمور الدين لتأكيدها ودفع الشك عن سامعها؛ فهو محمودٌ غير مكروه، كما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم.
ومَنْ حَلَفَ يمينًا قاصدًا عقدها على مستقبلٍ ممكن، ففعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله مختارًا ذاكرًا - فقد حنث، ووجبت عليه كفَّارة اليمين، وهي إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين كيلو ونصف تقريبًا من بُرٍّ أو أرز أو تمر، أو من غالب قوت البلد، ولا يجزئ إطعام واحد عشر مرات، أو اثنين خمس مرات؛ بل لا يخرج الحانث من العهدة إلا بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وتتقدر الكسوة بما يُجزئ في الصلاة، وهو ثوبٌ للرجل يستر عورته، وللمرأة درعٌ وخمارٌ يستر جميعها، ولا يجزئ السراويل ولا إزار وحده، وتجزئه كسوتهم من القطن والصوف وسائر ما يسمَّى كسوة، والأولى كسوتهم من الجديد لا من اللبيس، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإنْ لم يستطع صامَ ثلاثة أيام، واشترط جمهور العلماء أن تكون متتابِعات.
ولا يجزئ إخراج النقود في كفَّارة اليمين، ومن فعل خلاف يمينه ناسيًا فلا حنث ولا كفَّارة؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
ومَنْ كرَّر الأَيْمان قبل الحنث والمحلوف عليه واحد؛ فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، ومَنْ حلف ثم حنث، ثم حلف ثم حنث، والمحلوف عليه واحدٌ؛ فعليه كفارات بعدد المرات التي حنث فيها، ومتى تعدَّدت الأيمان والمحلوف عليه أكثر من واحد؛ وجب عن كل يمين حنث بها كفَّارة.
ومَنْ حرَّم على نفسه مباحاً سوى زوجته؛ كفَّر عن يمينه وأتى ما أُبيح له.
وعلى المسلم ألا يحرِّم على نفسه شيئًا أباحه الله له؛ من طعام أو شراب أو ملبس أو مال له حقٌّ شرعيٌّ فيه، ومَنْ حلف لا يفعل برًّا ولا تقوى ولا صلةً ولا إصلاحًا بين الناس، حرم عليه أن يعتل بالله، ووجب عليه أن يكفر ويبر؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأتها وليكفِّر عن يمينه))؛ أخرجه مسلم.
وما جرى على اللسان من الأيمان والأقسام بلا قصد من الحالف ولا نيَّة؛ كقول الرجل: لا والله، وبلى والله؛ فهو لغوٌ لا كفَّارة فيه.
ومَنْ حلف على شيءٍ جازمًا بصَّحة ما قال، فظهر بخلاف ما حلف - فلا كفارة عليه، ومن حلف فقال عقب يمينه - إن شاء الله - فقد استثنى؛ فإن شاء فعل، وإن شاء تَرَكَ، ولا حنث عليه ولا كفَّارة؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حلف فاستثنى؛ فإن شاء رجع، وإن شاء ترك غير حنث))؛ أخرجه أبو داود. ويُشترَط أن يستثنيَ بلسانه، ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامَّة أهل العلم.
ومَنْ عَقَدَ يمينًا على الكذب والخديعة والفجور، لإضاعة حقِّ امرئٍ مسلمٍ وأكل ماله بالباطل - فقد حلف الغموس المُرْدِيَة واليمين المُوبِقَة؛ فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئٍ مسلم، هو فيها فاجرٌ؛ لقي الله وهو عليه غضبان))؛ متفق عليه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحفظوا أيمانكم، واحذروا النذور التي تكلِّفكم ما لا تطيقون، واجعلوا نشاطكم فيما أوجب الله عليكم، واستجلِبوا النِّعم واستدفعوا النقم بالعمل الصالح والدعاء؛ فلا يردُّ القَدَر إلا الدُّعاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من البيِّنات والحكمة، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه كان للأوَّابين غفارا
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد،،،
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
أيها المسلمون، إن على المسلم إذا أراد أن يحلف: أن لا يحلف إلا بالله تعالى وحده، ولا يحلف بغيره، فيقسم باسم من أسماء الله تعالى؛ مثل: والله، ورب الكعبة، أو أقسم برب العالمين، أو يقسم بصفة من صفاته تعالى؛ مثل: وعزة الله، وقدرة الله، والذي رفع السماء بلا عمد، ونحو ذلك من الصفات.
قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)[9].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوب يغتسل عريانًا فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتُك عما ترى؟ قال: بلى، وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك)[10].
وعلى هذا لا يحل للمرء أن يحلف بغير الله تعالى، وإنما يحلف المخلوق بالخالق، ولا يحلف بشيء من الخلائق؛ من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين أو الأولياء أو العظماء أو الآباء، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله وإلا فليصمت) قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً[11].
عباد الله، وإن للحلف بغير الله تعالى صوراً متعددة، فمنها:
الحلف بالأمانة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (من حلف بالأمانة فليس منا)[13]. قال العلماء: معناه: "ليس على هدينا، وجميل طريقتنا"[14].
ومنها: الحلف بغير ملة الإسلام كأن يقول: هو يهودي أو نصراني ما فعل هذا، أو أنه سيفعل كذا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمداً فهو كما قال)[15]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف؛ إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام فهو بريء من الإسلام)[16].
ومنها: الحلف بالنبي، أو الشرف، أو رؤوس الأولاد، أو الرتبة العسكرية، أو الحياة أو العيش، أو حق فلان وعلان، أو غير ذلك.
فمن حلف بصورة من هذه الصور ونحوها معتقداً أن للمحلوف به منزلةً مثل الله تعالى فهو مشرك شركاً أكبر. وإن كان لا يعتقد ذلك ولكن كان في قلبه من تعظيم المحلوف به ما حمله على أن يحلف به دون أن يعتقد أن له منزلة مثل منزلة الله فهو مشرك شركاً أصغر[17].
هذا وصلُّوا وسلِّموا عبادَ اللهِ، على خير البرية وأزكى البشريَّة، محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أمرَكم اللهُ بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّر أعداءكَ أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، واجعَلْ ولايةَ المسلمين فيمَنْ خافَكَ واتقاكَ واتَّبَعَ رضاكَ يا ربَّ العالمينَ.
اللهم وفِّق إمامَنا لهداكَ، واجعَلْ عملَه في رضاكَ، وارزقه البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، التي تدلُّه على الخير وتُعِينه عليه يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم ووليَّ عهده وإخوانَهم على الخير يا ربَّ العالمينَ.
اللهم إنا عبيدُكَ بنو عبيدِكَ بنو إمائِكَ، نواصينا بيدِكَ، ماضٍ فينا حُكمُكَ، عدلٌ فينا قضاؤُكَ، نسألُكَ بكلِّ اسمٍ هو لكَ، سميتَ به نفسَكَ، أو أنزلتَه في كتابِكَ، أو علمتَه أحدًا من خَلقِكَ، أو استأثرتَ به في عِلمِ الغيبِ عندَكَ، أن تجعل القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجلاءَ أحزاننا، وذَهابَ همومنا وغمومنا، اللهم ذكِّرْنا منه ما نُسِّينا، اللهم عَلِّمْنا منه ما جَهِلْنا، اللهم ارزقنا تلاوتَه آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ على الوجه الذي يُرضِيكَ عنَّا، اللهم اجعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهلُكَ وخاصتُكَ، اللهم انفَعْنا وارفَعْنا بالقرآن العظيم، واجعَلْه لنا إمامًا وهاديًا إلى جناتك جنات النعيم.
اللهم اغفر لنا ذنوبَنا وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامَنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، أولها وآخرها، علانيتها وسرها.