الزَّلاَزِلُ آياتٌ يُخَوِّفُ اللهُ بِهَا العِبَادَ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إن هذه الدنيا دار لا تسلم من المنغصات، ولا تبقى آمنة من المصيبات، أفراحها مشوبة بالأحزان، وتمامها متلوٌّ بالنقصان، وأمانها غير آمن من مخاوف معكِّرة، واستقرارها غير محفوظ من أحداث مبعثِرة أو مدِّمرة.
ضاحكها يقطع ضحكَه البكاء، أو مجيءُ العزاء، وغنيُّها قد يَذهب غناه في لمحة عين، فيصبح لا شيء له، وصحيحها لا يسلم من الأسقام، وعامرها لابد أن تمر به الآلام، وحيُّها قد يبغته الموت وكان قبل لحظات منه في تمام عافيته، وكامل سروره، وزهو أمانيه الممتدة.
أفلا اتعظ عابر الدنيا بهذه المكاره، وعلم أنها ليست لحي بوطن، فأعد زاد التقوى، واستعد للقاء المولى، وترك اللهو بدار الدنيا؛ (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64].
أيها المؤمنون: لا أمان على هذه الحياة الموقوتة من هجوم البلاء، ورحيل النعماء، ومصيرِ المالك بلا ملك، والقريبِ بلا أقارب، والحبيب بلا أحباب؛ فالمكارهُ لن تطلب الاستئذان بالدخول، ومتى نزلت ليس بيد الحيِّ إرغامُها على الإقلاع والرحيل؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)[آل عمران:13].
وإن من تلك البلايا -معشر المسلمين- بليةَ الزلازل التي تحرك الأرض وتميد بها، فتسقط المساكن على رؤوس أهلها فيصبح الناس بين ميْتٍ وفقيد، وعالق وجريح وشريد، وتذهب الممتلكات، وتتعطل سبل الحياة، ويعظم الهول والفجيعة، وتغدو الحقيقية المرئية كأنها حلم مخيف ما كان العقل يتصور أن يجده على أرض اليقظة ماثلا.
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : جاءَ في البخاري حديثٌ عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يُقبَضَ العِلمُ، وتَكثُرَ الزَّلازِلُ، ويَتَقارَبَ الزَّمانُ، وتَظهَرَ الفِتَنُ، ويَكثُرَ الهَرْجُ، وهو القَتْلُ القَتْلُ ... )) رواه البخاري ، قال ابنُ رَجَبٍ في شَرحِ الحَديثِ: (أمَّا كثرةُ الزَّلازِلِ، فهو مَقصودُ البُخاريِّ في هذا البابِ مِنَ الحَديثِ ، والظَّاهِرُ: أنَّه حَملَه على الزَّلازِلِ الْمَحسوسةِ، وهيَ ارتِجافُ الأرضِ وتَحَرُّكُها، ويُمكِنُ حَملُه على الزَّلازِلِ الْمَعنَويَّةِ، وهيَ كثرةُ الفِتَنِ الْمُزعِجةِ الْمُوجِبةِ لارتِجافِ القُلوبِ ، والأوَّلُ أظهَرُ؛ لأنَّ هذا يُغني عَنه ذِكرُ ظُهورِ الفِتَنِ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (أخبَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَكثُر الزَّلازِلُ، وهيَ نَوعانِ: زَلازِلُ حِسِّيَّةٌ تَهُزُّ الأرضَ، فتُدَمِّرُ القُرى والمَساكِنَ، وزَلازِلُ مَعنَويَّةٌ تُزَلزِلُ الإيمانَ والعَقيدةَ والأخلاقَ والسُّلوكَ، حَتَّى يَضطَرِبَ النَّاسُ في عَقائِدِهم وأخلاقِهم وسُلوكِهم، فيَعودَ الحَليمُ العاقِلُ حيرانَ، والحَديثُ مُحتَمِلٌ لكُلٍّ مِنهما، وهو في الأوَّلِ أظهَرُ) .
وعَن سَلَمةَ بنِ نفيلٍ السكونيِّ -وكان من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بينَ يَديِ السَّاعةِ مُوْتانٌ شَديدٌ، وبَعدَه سَنَواتُ الزَّلازِلِ)) صحيح ابن حبان .
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : وَلَا شَك أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ اَلزَّلَازِلِ فِي هَذِهِ اَلْأَيَّامِ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ -خاصةً في تركيا وسوريا-هُوَ مِنْ جُمْلَةِ اَلْآيَاتِ اَلَّتِي يُخَوِّفُ اَللَّهُ بِهَا سُبْحَانَهُ عِبَادهُ ، وَكُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي اَلْوُجُودِ مِنْ اَلزَّلَازِلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَضُرُّ اَلْعِبَادَ وَيُسَبِّبُ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ اَلْأَذَى ، كُلُّهُ بِسَبَبِ اَلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، كَمَا قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ " ، وَقَالَ تَعَالَى : " مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اَللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ "، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ اَلْأُمَمِ اَلْمَاضِيَةِ : " فَكُلًّا أَخْذنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مِنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصْبَا وَمِنْهُمْ مِنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مِنْ خَسْفنَا بِهِ اَلْأَرْضُ وَمِنْهُمْ مِنْ أَغْرَقَنَا وَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمِهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسهَمْ يَظْلِمُونَ ".
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : فَالْوَاجِبُ عَلَى اَلْمُكَلَّفِينَ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ، اَلتَّوْبَةُ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِهِ ، وَالْحَذَرُ مِنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ اَلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، حَتَّى تَحْصُلَ لَهُمْ اَلْعَافِيَةُ وَالنَّجَاةُ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ اَلشُّرُورِ ، وَحَتَّى يَدْفَعَ اَللَّهُ عَنْهُمْ كُلَّ بَلَاءٍ ، وَيَمْنَحَهُمْ كُلَّ خَيْرٍ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ اَلْكِتَابِ : " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لِأَكِلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " ، وَقَالَ تَعَالَى : " أَفَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوْ أَمْنِ أَهْلِ اَلْقُرَى أَنْ يَأْتِيهِمْ بَأْسُنَا ضَحَّى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمَنُوا مَكْرُ اَللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلَّا اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ " .
عباد الله: إن الزلازل تنزل على الصالح والطالح، والمؤمن والكافر؛ فهي للطالح عقوبة على ما اقترف من الخطايا بعد الإمهال، وللصالح تطهير من الذنوب، ورفع الدرجات لدى الكبير المتعال، فلا يقال: إنها عقوبة عامة بلا تفريق، ولا أنها مصيبة مأجور عليها كلُّ من نزلت به؛ فقد عاقب الله -تعالى- بها قوم شعيب المكذبين؛ قال -تعالى-: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[العنكبوت:37].
وأما المؤمنون فالزلازل وسائر البلايا لهم تطهير وتنقية؛ فقد أصاب طاعون عمواس الناس في العام الثامن عشر الهجري ومات بسببه عدد من الصحابة وخيار التابعين؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَا عَذَابَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، جَعَلَ اللَّهُ عَذَابَهَا فِي الدُّنْيَا الْقَتْلَ وَالزَّلَازِلَ وَالْفِتَنَ".
قال بعض أهل العلم: "هذا الحديث وارد في مدح أمته -صلى الله عليه وسلم- واختصاصهم من بين سائر الأمم بعناية الله -تعالى- ورحمته بهم وأنهم إن أصيبوا بمصيبة في الدنيا حتى الشوكة يشاكها فإن الله يكفر بها في الآخرة ذنبًا من ذنوبهم، وأن من عُذِّب منهم في الآخرة على معاص لم يخرج بها إلى الكفر فإنه لا يعذب مثل عذاب الكفار".
وقال بعضهم: "المصائب المقدرة في النفس والأهل والمال تارة تكون كفارة وطهورا، وتارة تكون زيادة في الثواب وعلواً في الدرجات، وتارة تكون عقابًا وانتقاما".
نسأل الله أن يقينا عذابه، ويرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطْبَةُ الثانية:
أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 2-3].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: في الأَيَّامِ المَاضِيَةِ، نَقَلَت لَنَا وَسَائِلُ الإِعلامِ وَأَجهِزَةُ التَّوَاصُلِ مَشَاهِدَ مِن ذَلِكُمُ الزِّلزَالِ المُرَوِّعِ، الَّذِي وَقَعَ في تُركِيَا وَشَمَالِ الشَّامِ، وَرَأَينَا الأَرضَ وَقَد تَصَدَّعَت، وَالمَبَانيَ الشَّاهِقَةَ وَقَد سَقَطَت وَتَهَدَّمَت، وَالمَوتَى وَالمَحبُوسِينَ تَحتَ الأَنقَاضِ بِالعَشَرَاتِ، وَالنَّاسُ بَينَ هَلَعٍ وَجَزَعٍ، وَبُكَاءٍ وَصِيَاحٍ وَعَوِيلٍ.
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : مِمَّا يُذْكَرُ فَيُشْكَرُ مَا مَنْ بِهِ اَللَّهُ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ هَذِهِ اَلْبِلَادِ اَلْمُبَارَكَةِ - وَفَقَّهُمْ اَللَّهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- مِنْ تَسْيِيرِ اَلْقَوَافِلِ اَلْجَوِّيَّةِ لِمُسَاعَدَةِ إِخْوَانِنَا اَلْمَنْكُوبِينَ فِي تُرْكِيَا وَسُورْيَا وَدَعْوَةِ اَلشَّعْبِ وَكُلِّ مِنْ يَسْكُنُ فِيهَا لِلتَّبَرُّعِ وَمَدِّ يَدِ اَلْعَوْنِ لِإِخْوَانِهِ المسلمينَ اَلْمَنْكُوبِينَ عَبْرَ اَلْمِنَصَّاتِ وَالْجِهَاتِ اَلرَّسْمِيَّةِ اَلْمَوْثُوقَةِ وَالْفَزَعِ إلى اَللَّهِ بِالدُّعَاءِ أَنْ يَكْشِفَ كَرْبَهُمْ وَيَرْحَمَ مَيِّتَهُمْ وَيَشْفِي مَرِيضَهُمْ وَيُسَكِّنَ رَوْعَهُمْ وَيُصَبِرَهَم .
وَاَللَّهُ اَلْمَسْؤُولُ أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَ اَلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا ، وَأَنْ يَمْنَحَهُمْ اَلْفِقْهَ فِي اَلدِّينِ ، وَأَنْ يَمْنَحَهُمْ اَلِاسْتِقَامَةَ عَلَيْهِ ، وَالتَّوْبَةَ إِلَى اَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ اَلذُّنُوبِ ، وَأَنْ يُصْلِحَ وُلَاةَ أَمْرِ اَلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا ، وَأَنْ يوفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ، وولي عهده بتوفيقه، وأن يَنْصُرهم وينصر بِهُمْ اَلْحَقَّ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه.
أيها المسلمون: إن هذه الدنيا دار لا تسلم من المنغصات، ولا تبقى آمنة من المصيبات، أفراحها مشوبة بالأحزان، وتمامها متلوٌّ بالنقصان، وأمانها غير آمن من مخاوف معكِّرة، واستقرارها غير محفوظ من أحداث مبعثِرة أو مدِّمرة.
ضاحكها يقطع ضحكَه البكاء، أو مجيءُ العزاء، وغنيُّها قد يَذهب غناه في لمحة عين، فيصبح لا شيء له، وصحيحها لا يسلم من الأسقام، وعامرها لابد أن تمر به الآلام، وحيُّها قد يبغته الموت وكان قبل لحظات منه في تمام عافيته، وكامل سروره، وزهو أمانيه الممتدة.
أفلا اتعظ عابر الدنيا بهذه المكاره، وعلم أنها ليست لحي بوطن، فأعد زاد التقوى، واستعد للقاء المولى، وترك اللهو بدار الدنيا؛ (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64].
أيها المؤمنون: لا أمان على هذه الحياة الموقوتة من هجوم البلاء، ورحيل النعماء، ومصيرِ المالك بلا ملك، والقريبِ بلا أقارب، والحبيب بلا أحباب؛ فالمكارهُ لن تطلب الاستئذان بالدخول، ومتى نزلت ليس بيد الحيِّ إرغامُها على الإقلاع والرحيل؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)[آل عمران:13].
وإن من تلك البلايا -معشر المسلمين- بليةَ الزلازل التي تحرك الأرض وتميد بها، فتسقط المساكن على رؤوس أهلها فيصبح الناس بين ميْتٍ وفقيد، وعالق وجريح وشريد، وتذهب الممتلكات، وتتعطل سبل الحياة، ويعظم الهول والفجيعة، وتغدو الحقيقية المرئية كأنها حلم مخيف ما كان العقل يتصور أن يجده على أرض اليقظة ماثلا.
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : جاءَ في البخاري حديثٌ عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يُقبَضَ العِلمُ، وتَكثُرَ الزَّلازِلُ، ويَتَقارَبَ الزَّمانُ، وتَظهَرَ الفِتَنُ، ويَكثُرَ الهَرْجُ، وهو القَتْلُ القَتْلُ ... )) رواه البخاري ، قال ابنُ رَجَبٍ في شَرحِ الحَديثِ: (أمَّا كثرةُ الزَّلازِلِ، فهو مَقصودُ البُخاريِّ في هذا البابِ مِنَ الحَديثِ ، والظَّاهِرُ: أنَّه حَملَه على الزَّلازِلِ الْمَحسوسةِ، وهيَ ارتِجافُ الأرضِ وتَحَرُّكُها، ويُمكِنُ حَملُه على الزَّلازِلِ الْمَعنَويَّةِ، وهيَ كثرةُ الفِتَنِ الْمُزعِجةِ الْمُوجِبةِ لارتِجافِ القُلوبِ ، والأوَّلُ أظهَرُ؛ لأنَّ هذا يُغني عَنه ذِكرُ ظُهورِ الفِتَنِ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (أخبَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَكثُر الزَّلازِلُ، وهيَ نَوعانِ: زَلازِلُ حِسِّيَّةٌ تَهُزُّ الأرضَ، فتُدَمِّرُ القُرى والمَساكِنَ، وزَلازِلُ مَعنَويَّةٌ تُزَلزِلُ الإيمانَ والعَقيدةَ والأخلاقَ والسُّلوكَ، حَتَّى يَضطَرِبَ النَّاسُ في عَقائِدِهم وأخلاقِهم وسُلوكِهم، فيَعودَ الحَليمُ العاقِلُ حيرانَ، والحَديثُ مُحتَمِلٌ لكُلٍّ مِنهما، وهو في الأوَّلِ أظهَرُ) .
وعَن سَلَمةَ بنِ نفيلٍ السكونيِّ -وكان من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بينَ يَديِ السَّاعةِ مُوْتانٌ شَديدٌ، وبَعدَه سَنَواتُ الزَّلازِلِ)) صحيح ابن حبان .
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : وَلَا شَك أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ اَلزَّلَازِلِ فِي هَذِهِ اَلْأَيَّامِ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ -خاصةً في تركيا وسوريا-هُوَ مِنْ جُمْلَةِ اَلْآيَاتِ اَلَّتِي يُخَوِّفُ اَللَّهُ بِهَا سُبْحَانَهُ عِبَادهُ ، وَكُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي اَلْوُجُودِ مِنْ اَلزَّلَازِلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَضُرُّ اَلْعِبَادَ وَيُسَبِّبُ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ اَلْأَذَى ، كُلُّهُ بِسَبَبِ اَلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، كَمَا قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ " ، وَقَالَ تَعَالَى : " مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اَللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ "، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ اَلْأُمَمِ اَلْمَاضِيَةِ : " فَكُلًّا أَخْذنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مِنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصْبَا وَمِنْهُمْ مِنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مِنْ خَسْفنَا بِهِ اَلْأَرْضُ وَمِنْهُمْ مِنْ أَغْرَقَنَا وَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمِهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسهَمْ يَظْلِمُونَ ".
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : فَالْوَاجِبُ عَلَى اَلْمُكَلَّفِينَ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ، اَلتَّوْبَةُ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِهِ ، وَالْحَذَرُ مِنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ اَلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، حَتَّى تَحْصُلَ لَهُمْ اَلْعَافِيَةُ وَالنَّجَاةُ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ اَلشُّرُورِ ، وَحَتَّى يَدْفَعَ اَللَّهُ عَنْهُمْ كُلَّ بَلَاءٍ ، وَيَمْنَحَهُمْ كُلَّ خَيْرٍ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ اَلْكِتَابِ : " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لِأَكِلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " ، وَقَالَ تَعَالَى : " أَفَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوْ أَمْنِ أَهْلِ اَلْقُرَى أَنْ يَأْتِيهِمْ بَأْسُنَا ضَحَّى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمَنُوا مَكْرُ اَللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلَّا اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ " .
عباد الله: إن الزلازل تنزل على الصالح والطالح، والمؤمن والكافر؛ فهي للطالح عقوبة على ما اقترف من الخطايا بعد الإمهال، وللصالح تطهير من الذنوب، ورفع الدرجات لدى الكبير المتعال، فلا يقال: إنها عقوبة عامة بلا تفريق، ولا أنها مصيبة مأجور عليها كلُّ من نزلت به؛ فقد عاقب الله -تعالى- بها قوم شعيب المكذبين؛ قال -تعالى-: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[العنكبوت:37].
وأما المؤمنون فالزلازل وسائر البلايا لهم تطهير وتنقية؛ فقد أصاب طاعون عمواس الناس في العام الثامن عشر الهجري ومات بسببه عدد من الصحابة وخيار التابعين؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَا عَذَابَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، جَعَلَ اللَّهُ عَذَابَهَا فِي الدُّنْيَا الْقَتْلَ وَالزَّلَازِلَ وَالْفِتَنَ".
قال بعض أهل العلم: "هذا الحديث وارد في مدح أمته -صلى الله عليه وسلم- واختصاصهم من بين سائر الأمم بعناية الله -تعالى- ورحمته بهم وأنهم إن أصيبوا بمصيبة في الدنيا حتى الشوكة يشاكها فإن الله يكفر بها في الآخرة ذنبًا من ذنوبهم، وأن من عُذِّب منهم في الآخرة على معاص لم يخرج بها إلى الكفر فإنه لا يعذب مثل عذاب الكفار".
وقال بعضهم: "المصائب المقدرة في النفس والأهل والمال تارة تكون كفارة وطهورا، وتارة تكون زيادة في الثواب وعلواً في الدرجات، وتارة تكون عقابًا وانتقاما".
نسأل الله أن يقينا عذابه، ويرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطْبَةُ الثانية:
أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 2-3].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: في الأَيَّامِ المَاضِيَةِ، نَقَلَت لَنَا وَسَائِلُ الإِعلامِ وَأَجهِزَةُ التَّوَاصُلِ مَشَاهِدَ مِن ذَلِكُمُ الزِّلزَالِ المُرَوِّعِ، الَّذِي وَقَعَ في تُركِيَا وَشَمَالِ الشَّامِ، وَرَأَينَا الأَرضَ وَقَد تَصَدَّعَت، وَالمَبَانيَ الشَّاهِقَةَ وَقَد سَقَطَت وَتَهَدَّمَت، وَالمَوتَى وَالمَحبُوسِينَ تَحتَ الأَنقَاضِ بِالعَشَرَاتِ، وَالنَّاسُ بَينَ هَلَعٍ وَجَزَعٍ، وَبُكَاءٍ وَصِيَاحٍ وَعَوِيلٍ.
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ : مِمَّا يُذْكَرُ فَيُشْكَرُ مَا مَنْ بِهِ اَللَّهُ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ هَذِهِ اَلْبِلَادِ اَلْمُبَارَكَةِ - وَفَقَّهُمْ اَللَّهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- مِنْ تَسْيِيرِ اَلْقَوَافِلِ اَلْجَوِّيَّةِ لِمُسَاعَدَةِ إِخْوَانِنَا اَلْمَنْكُوبِينَ فِي تُرْكِيَا وَسُورْيَا وَدَعْوَةِ اَلشَّعْبِ وَكُلِّ مِنْ يَسْكُنُ فِيهَا لِلتَّبَرُّعِ وَمَدِّ يَدِ اَلْعَوْنِ لِإِخْوَانِهِ المسلمينَ اَلْمَنْكُوبِينَ عَبْرَ اَلْمِنَصَّاتِ وَالْجِهَاتِ اَلرَّسْمِيَّةِ اَلْمَوْثُوقَةِ وَالْفَزَعِ إلى اَللَّهِ بِالدُّعَاءِ أَنْ يَكْشِفَ كَرْبَهُمْ وَيَرْحَمَ مَيِّتَهُمْ وَيَشْفِي مَرِيضَهُمْ وَيُسَكِّنَ رَوْعَهُمْ وَيُصَبِرَهَم .
وَاَللَّهُ اَلْمَسْؤُولُ أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَ اَلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا ، وَأَنْ يَمْنَحَهُمْ اَلْفِقْهَ فِي اَلدِّينِ ، وَأَنْ يَمْنَحَهُمْ اَلِاسْتِقَامَةَ عَلَيْهِ ، وَالتَّوْبَةَ إِلَى اَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ اَلذُّنُوبِ ، وَأَنْ يُصْلِحَ وُلَاةَ أَمْرِ اَلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا ، وَأَنْ يوفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ، وولي عهده بتوفيقه، وأن يَنْصُرهم وينصر بِهُمْ اَلْحَقَّ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه.